فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)}.
تقدم الكلام على {اضرب} مع المثل في قوله: {إن يضرب مثلًا ما بعوضة} والقرية: أنطاكية، فلا خلاف في قصة أصحاب القرية.
{إذ جاءها المرسلون} هم ثلاثة، جمعهم في المجيء، وإن اختلفوا في زمن المجيء.
{إذا أرسلنا إليهم اثنين}.
الظاهر من أرسلنا أنهم أنبياء أرسلهم الله، ويدل عليه قوله المرسل إليهم: {ما أنتم إلا بشر مثلنا}.
وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله، وهذا قول ابن عباس وكعب.
وقال قتادة وغيرهم من الحواريين: بعثهم عيسى عليه السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه، فافترق الحواريون في الآفاق، فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية، وكان أهلها عباد أصنام، صادق وصدوق، قاله وهب وكعب الأحبار.
وحكى النقاش بن سمعان: ويحنا.
وقال مقاتل: تومان ويونس.
{فكذبوهما} أي دعواهم إلى الله، وأخيرًا بأنهما رسولا الله، {فكذبوهما فعززنا بثالث} أي قوينا وشددنا، قاله مجاهد وابن قتيبة، وقال؛ يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب، وقال غيره: يقال المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها، ويقال للأرض الصلبة القرآن، هذا على قراءة تشديد الزاي، وهي قراءة الجمهور.
وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وأبو بكر، والمفضل، وأبان: بالتخفيف.
قال أبو علي: فغلبنا.
انتهى، وذلك من قولهم من عزني، وقوله تعالى: {وعزني في الخطاب} وقرأ عبد الله: بالثالث، بألف ولام، والثالث شمعون الصفا، قاله ابن عباس.
وقال كعب، ووهب: شلوم؛ وقيل: يونس.
وحذف مفعول فعززنا مشددًا، أي قويناهما بثالث مخففًا، فغلبناهم: أي بحجة ثالث وما يلطف به من التوصل إلى الدعاء إلى الله حتى من الملك على ما ذكر في قصتهم، وستأتي هي أو بعض منها إن شاء الله.
وجاء أولًا مرسلون بغير لام لأنه ابتداء إخبار، فلا يحتاج إلى توكيد بعد المحاورة.
{لمرسلون} بلام التوكيد لأنه جواب عن إنكار، وهؤلاء أمة أنكرت النبوات بقولها: {وما أنزل الرحمن من شيء} وراجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط، وما عليهم من هداهم وضلالهم، وفي هذا وعيد لهم.
ووصف البلاغ بالمبين، وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت.
{قالوا إنا تطيرنا بكم} أي تشاء منا.
قال مقاتل: احتبس عليهم المطر.
وقال آخر: أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل.
قال ابن عطية: والظاهر أن تطير هؤلاء كان سبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس، وهذا على نحو تطير قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى نحو ما خوطب به موسى عليه السلام.
وقال الزمخشري: وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وقبلته طباعهم، ويشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابتهم نعمة أو بلاء قالوا: ببركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط:
{وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} وعن مشركى مكة: {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} انتهى.
وعن قتادة: إن أصابنا شيء كان من أجلكم.
{لنرجمنكم} بالحجارة، قاله قتادة.
{عذاب أليم} هو الحريق.
{قالوا طائركم معكم} أي حظكم وما صار لكم من خير أو شر معكم، أي من أفعالكم، ليس هو من أجلنا بل بكفركم.
وقرأ الحسن، وابن هرمز، وعمرو بن عبيد، وزر بن حبيش: طيركم بياء ساكنة الطاء.
وقرأ الحسن فيما نقل: {اطيركم} مصدر اطير الذي أصله تطير، فأدغمت التاء في الطاء، فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر.
وقرأ الجمهور: {طائركم} على وزن فاعل.
وقرأ الجمهور: {أئن ذكرتم} بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام، والثانية همزة إن الشرطية، فخففها الكوفيون وابن عامر، وسهلها باقي السبعة.
وقرأ زر: بهمزتين مفتوحتين، وهي قراءة أبي جعفر وطلحة، إلا أنها البناء الثانية بين بين.
وقال الشاعر في تحقيقها:
أإن كنت داود بن أحوى مرحلًا ** فلست بداع لابن عمك محرمًا

والماجشوني، وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبدالله بن أبي سلمة المدني: بهمزة واحدة مفتوحة؛ والحسن: بهاء مكسورة؛ وأبو عمرو في رواية، وزر أيضًا: بمدة قبل الهمزة المفتوحة، استثقل اجتماعهما ففضل بينهما بألف.
وقرأ أبو جعفر أيضًا، والحسن أيضًا، وقتادة، وعيس الهمداني، والأعمش: {أين} بهمزة مفتوحة وياء ساكنة، وفتح النون ظرف مكان.
وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضًا.
فالقراءة الأولى على معنى: إن ذكرتم تتطيرون، بجعل المحذوف مصب الاستفهام، على مذهب سيبويه، بجعله للشرط، على مذهب يونس؛ فإن قدرته مضارعًا كان مجزومًا.
والقراءة الثانية على معنى: ألان ذكرتم تطيرتم، فإن مفعول من أجله، وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة؛ وقراءة الهمزة المكسورة وحدها، فحرف شرط بمعنى الإخبار، أي إن ذكرتم تطيرتم.
والقراءة الثانية الأخيرة أين فيها ظرف أداة الشرط، حذف جزاؤه للدلالة عليه وتقديره: أين ذكرتم صحبكم طائركم، ويدل عليه قوله: {طائركم معكم}.
ومن جوز تقديم الجزاء على الشرط، وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد، يجوز أن يكون الجواب {طائركم معكم} وكان أصله: أين ذكرتم فطائركم معكم، فاما قدم حذفت الفاء.
وقرأ الجمهور: {ذكرتم} بتشديد الكاف؛ وأبو جعفر، وخالد بن الياس، وطلحة، والحسن، وقتادة.
وأبو حيوة، والأعمش من طريق زائدة، والأصمعي عن نافع: بتخفيفها.
{بل أنتم قوم مسرفون} مجاوزون الحد في ضلالكم، فمن ثم أتاكم الشؤم.
{وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} اسمه حبيب، قاله ابن عباس وأبو مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل.
قيل: وهو ابن إسرائيل، وكان قصارًا، وقيل: إسكافًا، وقيل: كان ينحت الأصنام، ويمكن أن يكون جامعًا لهذه الصنائع.
و{من أقصى المدينة} أي من أبعد مواضعها.
فقيل: كان في خارج المدينة يعاني زرعًا له.
وقيل: كان في غار يعبد ربه.
وقيل: كان مجذومًا، فميزله أقصى باب من أبوابها، عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره.
فلما دعاه للرسل إلى عبادة الله قال: هل من آية؟ قالوا: نعم، ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك، فقال: إن هذا لعجيب! لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع، يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: نعم، ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئًا ولا تضر، فآمن.
ودعوا ربهم، فكشف الله ما به، كأن لم يكن به بأس.
فأقبل على التكسب، فإذا مشى، تصدق بكسبه، نصف لعياله، ونصف يطعمه.
فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم فقال: {يا قوم اتبعوا المرسلين}.
وحبيب هذا ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تبع الأكبر، وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن بني غيره أحد إلا بعد ظهوره.
وقال ابن أبي ليلى: سباق الأمم ثلاثة، لم يكفروا قط طرفة عين: على بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون.
وأورد الزمخشري قول ابن أبي ليلى حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم قبل من حاله أنه كان مجذومًا، عبد الأصنام سبعين سنة، فالله أعلم.
وهنا تقدم: {من أقصى المدينة} وفي القصص تأخر، وهو من التفنن في البلاغة.
{رجل يسعى} يمشي على قدميه.
{قال يا قوم اتبعوا المرسلين}.
الظاهر أنه لا يقول ذلك بعد تقدم إيمانه، كما سبق في قصة.
وقيل: جاء عيسى وسمع قولهم وفهمه فيما فهمه.
روي أنه تعقب أمرهم وسبره بأن قال لهم: أتطلبون أجرًا على دعوتكم هذه؟ قالوا: لا، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم، واحتج عليهم بقوله: {اتبعوا من لايسألكم أجرًا وهم مهتدون} أي وهم هدى من الله.
أمرهم أولًا باتباع المرسلين، أي هم رسل الله إليكم فاتبعوهم، ثم أمرهم ثانيًا بجمله جامعة في الترغيب، في كونهم لا ينقص منهم من حطام دنيانهم شيء، وفي كونهم يهتدون بهداهم، فيشتملون على خيري الدنيا والآخرة.
وقد أجاز بعض النحويين في {من} أن تكون بدلًا من {المرسلين} ظهر فيه العامل كما ظهر إذا كان حرف جر، كقوله تعالى: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم} والجمهور: لا يعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب، بدلًا، بل يجعلون ذلك مخصوصًا بحرف الجر.
وإذا كان الرافع والناصب، سموا ذلك بالتتبيع لا بالبدل.
وفي قوله: {اتبعوا من لا يسألكم أجرًا} دليل على نقص من يأخذ أجرًا على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة له، كالصلاة.
ولما أمرهم باتباع المرسلين، أخذ يبدي الدليل في اتباعهم وعبادة الله، فأبرزه في صورة نصحه لنفسه، وهو يريد نصحهم ليتلطف بهم ويراد بهم؛ ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، فوضح قوله: {ومالي لا أعبد الذين فطرني} موضع: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ ولذلك قال: {وإليه ترجعون} ولولا أنه قصد ذلك لقال: وإليه أرجع.